العربية

تصاعد المشاكل في الاقتصاد الروسي حيث تحاول الحكومة تمويل آلة الحرب

تواجه الحكومة الروسية مشاكل اقتصادية واجتماعية متزايدة نتيجة لتحويل البلاد إلى حالة الحرب. ففي العام الماضي، رفعت الدولة النفقات العسكرية والأمنية إلى نسبة غير مسبوقة بلغت 40% من الميزانية الفيدرالية لعام 2024. وقدم الكرملين وعوداً مختلفة، زاعماً أنه سيمول البرامج العسكرية والاجتماعية. لقد فشل هذا الأمر، واتسعت فجوة التفاوت في روسيا، في مواجهة ميزانية غير مستدامة وغير قادرة على الصمود في وجه انهيار النظام العالمي.

ويحاول الكرملين حاليا رسم صورة وردية لروسيا و للاقتصاد الروسي. ففي 28 يونيو، أعلن الرئيس بوتين أنه من المتوقع أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بنسبة 5 بالمئة هذا العام. وتفيد التقارير أيضاً أن الأجور الحقيقية ارتفعت، وكذلك الإنفاق الاستهلاكي. وبلغت نسبة البطالة الرسمية 2.6 بالمئة فقط. حتى الآن، كما تلاحظ موسكو بانتظام، فشل الناتو في تحقيق هدفه المتمثل في تدمير الاقتصاد الروسي من خلال فرض عقوبات ضخمة، وتجميد الأصول، وطرد البلاد من الأسواق العالمية الرئيسية.

لكن قدرة الكرملين على المناورة في سياق الحرب العالمية المتصاعدة بسرعة ضعيفة للغاية. قبل كل شيء، يقوم على: أ) جعل الطبقة العاملة الروسية تدفع ثمن نضال الأوليغارشية من أجل البقاء، ب) احتواء وقمع المعارضة الجماهيرية لحرب الأشقاء التي أطلقها ليس فقط الناتو، ولكن من خلال استعادة الرأسمالية في الاتحاد السوفييتي على يد الستالينيين البيروقراطيون، و يعتبر بوتين وريثهم.

ويتلخص المحرك الحالي للنمو الاقتصادي الروسي في استثمارات الدولة الضخمة في الصناعات المرتبطة بالحرب، التي تعمل على تحويل الأرباح إلى الشركات الكبرى وطبقة ضيقة من السكان، في حين إنها تستنزف خزائن الدولة الروسية. ومن المتوقع الآن أن يتجاوز الإنفاق الحكومي في عام 2024 بشكل كبير ما تمت الموافقة عليه سابقاً، حتى مع توقع انخفاض الدخل من قطاع الطاقة بمقدار 768 مليار روبل هذا العام. وفي الوقت نفسه، انخفضت الأصول السائلة لصندوق الرعاية الوطنية في البلاد، وهو احتياطي مالي طارئ، بنسبة 44% بين يناير/كانون الثاني 2022 وديسمبر/كانون الأول 2023. وجُمد ما بين 300 و350 مليار دولار من أصول الحكومة الروسية في حسابات أجنبية.

رداً على ذلك، وافق مجلس الدوما على زيادات في الإنفاق بالاستدانة، إذ أجازت الهيئة التشريعية زيادة الاقتراض لعام 2024 بنحو 33%، بما يصل إلى 2.12 تريليون روبل من 1.595 تريليون روبل المقدرة في الميزانية الأصلية. ويعمل الكرملين في الوقت نفسه على إجراء تغييرات على الهيكل الضريبي، وتحويل البلاد من نظام الضريبة الثابتة إلى نظام تصاعدي، حيث كلما ارتفع دخل الشخص، كلما زاد العبء الضريبي.

ومن المتوقع أن يجلب ذلك 2.5 إلى 2.7 تريليون روبل إضافية (28 إلى 35 مليار دولار بأسعار الصرف الحالية). يتم عرض الزيادات الضريبية على أصحاب الدخل المرتفع والشركات على السكان كإشارة إلى أن الحكومة ملتزمة بجعل الأغنياء يدفعون ثمن الحرب باهظ التكلفة ومحدود، على الرغم من أنه من حيث الميزانية، سُمح بزيادة المعاشات التقاعدية واستحقاقات الرعاية الاجتماعية على مدى السنوات الماضية. كما سلطت الصحافة الأجنبية الضوء على 'اعتداء بوتين المزعوم على الأثرياء.'

لكن الواقع مختلف ففي المقام الأول ، لن تشهد شرائح واسعة من السكان، التي تعاني من الفقر الشديد حتى أنها تقع في الشريحة الضريبية الأدنى، أي تخفيف من هذا الإصلاح. وسيستمر فرض الضرائب عليها بمعدل مرتفع للغاية يبلغ 13 بالمئة. وبقدر ما ترتفع الأجور بالنسبة للبعض في روسيا، حيث يحصل أصحاب الدخل الأدنى على دخل أعلى قليلا، فإنهم سوف ينتقلون إلى شريحة أعلى ويدفعون ثمن مكاسبهم. علاوة على ذلك، فإن ضريبة الأرباح، التي فُرضت على الدخل الشخصي المستمد من أشياء مثل أرباح الأسهم والمدخرات والاستثمار، أي الأصول التي يحتفظ بها الأثرياء فقط، سوف تظل دون تغيير.

وفي حين ستُفرض ضريبة على أرباح الشركات بنسبة 25 في المئة، وهذا يعني ارتفاعاً مقارنة مع 20 في المئة سابقاً، فقد أفادت التقارير أن الشركات الروسية مارست ضغوطاً لدعم الإصلاح لأنها ترى أنها وسيلة للتهرب من الضرائب 'غير المتوقعة' التي فرضها الكرملين في السابق لملء الفراغ و خرق في الميزانية الفيدرالية.

وحتى لو تحققت بالفعل البرامج الاجتماعية التي يقول الكرملين إنه سيمولها بالإيرادات الإضافية، أي معاشات التقاعد المرتبطة بالتضخم، والمدفوعات للمحاربين القدامى المصابين، والإعانات للعائلات الكبيرة، ، لكنها لن تغير الوضع الاجتماعي بشكل أساسي لعشرات الملايين من العمال الروس الذين تراجعت مستويات معيشتهم منذ سنوات والتهم التضخم رواتبهم .

و في حين سلطت الحكومة والاقتصاديون الضوء على حقيقة إنه وفقًا لوكالة الإحصاء الرسمية روستات، ارتفعت الأجور الحقيقية اعتباراً من مارس من هذا العام بنسبة 12.9 في المئة مقارنة بالوقت نفسه من عام 2023، إلا أن هذا التحسن يتركز بشكل كبير في عدد قليل من القطاعات الاقتصادية مثل البنوك والنفط والغاز والصناعات المرتبطة بالحرب ناهيك عن إنه لا يعوض عشر سنوات من انخفاض الدخول الحقيقية في البلاد. ففي مارس/آذار، وصف الخبير الاقتصادي يفغيني سوفوروف من بنك سنترو كريديت الفترة من 2014 إلى 2023 بأنها 'العقد الضائع' بالنسبة لغالبية الأسر الروسية.

وبلغ معدل التضخم، الذي تزعم الحكومة أنه أصبح تحت السيطرة، حالياً حوالي 7 في المئة. ومع ذلك، فإن الحياة اليومية للطبقة العاملة الروسية تتشكل بشكل كبير من خلال تكاليف المنتجات الأساسية، وليس متوسط ​​التضخم في جميع أنحاء الاقتصاد بأكمله. ووفقاً لمقالة نشرت في 29 يونيو في صحيفة نوفي إزفستيا، ارتفعت أسعار الشمندر في الأشهر الستة الماضية بنسبة 95 في المئة، والبطاطس بنسبة 80 في المئة، والجزر بنسبة 63 في المئة، والبصل بنسبة 32 في المئة، والتفاح بنسبة 29 في المئة. وبينما انخفضت تكاليف الخضار والفاكهة عادة خلال موسم النمو الصيفي، فإن النمط الحالي يخالف هذا الاتجاه التاريخي.

في الأول من يوليو، ارتفعت أسعار المرافق في جميع أنحاء روسيا. سيكون لدى الأسر في الغالبية العظمى من المناطق في البلاد فواتير تزيد بنسبة 9 إلى 14 بالمئة عن السابق. وجاء في الإعلان الرسمي أن الزيادة، التي وافقت عليها الحكومة الفيدرالية، ستكون سارية لمدة 'ثلاث سنوات'. ولا يتوقع عاقل أن تنخفض هذه النسبة بعد ذلك.

وبهدف تمويل إنفاقها على الحرب والأمن القومي، خفضت الحكومة الروسية الإنفاق على الرعاية الصحية والطب بالقيمة النسبية والحقيقية في عام 2024. وتشهد تكلفة الالتحاق بالعديد من الجامعات وبرامج التعليم العالي الأكثر تنافسية في البلاد الآن ارتفاعًا، مع وذكرت صحيفة فيدوموستي أن بعض المؤسسات رفعت الرسوم بنسبة تصل إلى 20 في المئة.

كما إن الجهود المبذولة لاستبدال المنتجات الروسية الصنع بالسلع الرخيصة المنتجة في الخارج والتي تمنع العقوبات بيعها في روسيا تضع العديد من المنتجات بعيدا عن متناول الناس العاديين. وسط ضجة كبيرة، أصدرت صناعة السيارات في البلاد عددًا من الطرازات الجديدة في شهر مارس. إن تكلفة Lada Iskra، التي قُدمت على إنها انتصار للصناعة المحلية، تتجاوز بكثير متوسط ​​الدخل السنوي في روسيا.

كما بدأت أسعار البنزين المحلية في الارتفاع الآن، إذ أنهت الحكومة القيود المفروضة على الصادرات الخارجية من النفط المكرر. وفي حين أدى ذلك إلى زيادة أرباح قطاع الطاقة، الذي يفضل توجيه منتجاته إلى المشترين الأجانب الذين يدفعون أكثر، فإنه يؤدي إلى ارتفاع التكاليف في السوق الروسية.

وجدت دراسة أجراها البنك المركزي الروسي في فبراير أن 28 بالمئة من الناس أفادوا إما بعدم وجود ما يكفي من المال لشراء الطعام أو إنه يمكنهم شراء الطعام ولكن ليس الملابس والأحذية.

وفي أواخر العام الماضي، أفاد رئيس المحكمة الدستورية الروسية فاليري زوركين أن نسبة الأجور العشرية، الفجوة بين أعلى 10% وأدنى 10% من أصحاب الدخل،زادت بشكل كبير وتقترب من 17:1. وأشار إلى أن هذا الرقم الرسمي يقلل بشكل كبير من الواقع. وبحسب تاس، وصف عدم المساواة بأنه 'المصدر الرئيسي للتوتر في المجتمع الروسي في المرحلة الحالية'. و في وقت سابق من هذا العام، ذكرت وكالة Rosstat أن معامل جيني في البلاد، وهو مقياس لعدم المساواة في الدخل، ارتفع إلى 0.403 من 0.395 على مدار الفترة 2022-2023

وأصر أكثر من نصف المشاركين في استطلاع أجرته للتو شركتا الأبحاث الاجتماعية CSP Platforma وOnIn على أن فجوة التفاوت في روسيا ارتفعت في السنوات الخمس الماضية. وقال 37% إن الوضع كان أسوأ من أي وقت آخر في تاريخ البلاد، بما في ذلك القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، عندما كانت الغالبية العظمى من السكان فلاحين مستعبدين يعيشون في ظروف قريبة من العبودية.

وقال 57% ممن شملهم الاستطلاع، وأغلبهم من الطبقة العاملة، إنهم يعتبرون وجود عدم المساواة في حد ذاته خطأ. 'يشير علماء الاجتماع إلى أن نسبة أولئك الذين يسعون إلى تحقيق المساواة الكاملة مرتفعة بشكل خاص بين الأشخاص ذوي التعليم الضعيف وذوي الدخل المنخفض'، حسبما ذكرت RBC في مقال بتاريخ 25 يونيو حول نتائج الاستطلاع.

وسوف تشتد الضغوط على الطبقة العاملة الروسية التي تمارسها ، حيث تواجه النخبة الحاكمة في البلاد وضعاً محفوفاً بالمخاطر على نحو متزايد وثمة العديد من العلامات التي تشير إلى حدوث ذلك.

فعلى مدار شهر يونيو، تسربت أخبار تفيد بأن البنوك الصينية، مثل بنك الصين، والبنك الصناعي والتجاري الصيني، وبنك سيتيك الصيني، ومعظم المؤسسات المالية الأخرى في البلاد، ترفض الآن معالجة المدفوعات باليوان من خلال الشركات التابعة لها في روسيا. ومن غيرالواضح كيف يمكن الحفاظ على التجارة بين الدولتين في هذا السياق الجديد.

وقال فلاديمير تشيستيوخين، النائب الأول لرئيس بنك روسيا، إن 'بلاده التي تعتمد على التصدير والاستيراد' تواجه 'الخراب'، ما لم تتمكن من إيجاد حل. وقال بحسب ما نقلته شبكة RBC الصحفية: 'كل شيء يحتاج إلى تجربة'. وفي معرض إثارة احتمال التحول إلى مقايضات الائتمان والعملة المشفرة، أعلن أن روسيا يتعين عليها أن تفعل ما 'بدا غير شعبي بالنسبة لنا بالأمس'.

الصين هي أكبر شريك تجاري لروسيا، والمشتري الرئيسي لموارد الطاقة الروسية. وبينما تصور موسكو بكين بانتظام كحليف اقتصادي، فإن العلاقة بين البلدين أشبه بالتبعية والتوتر المستمر. وتطالب الصين حالياً بأن تكون قادرة على شراء إمدادات الغاز المستقبلية من خلال خط أنابيب 'قوة سيبيريا 2' المخطط له بأسعار محلية مدعومة بشكل كبير. كما لن تقدم بكين ضمانات بشأن الكمية التي ستشتريها.

ومع ذلك، فإن اعتماد روسيا على النفط والغاز، وكذلك الصين، لا يزال مستمراً، مع انخفاض صادرات موسكو غير المرتبطة بالموارد. كما أن ارتفاع قيمة الروبل مؤخراً، والذي يعني أن السلع التي تبيعها روسيا في الخارج أصبحت أقل قدرة على المنافسة وتدر عدداً أقل من الروبلات، يعمل على خلق تعقيدات إضافية. ويحذر الاقتصاديون الآن أيضًا من أزمة مصرفية وديون.

وفي محاولتها للنجاة من الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي لالتهام روسيا، يتعين على الطبقة الحاكمة في البلاد أن تضغط على العمال. إن العمل هو مصدر كل الثروة، وعليهم أن يستخرجوه، بشكل أو بآخر، من أولئك الذين هم في الأسفل. ومع ذلك، فإن آلة الحرب التي تُبنى في روسيا لن تنقذ الجماهير من الجهود المجنونة للإمبريالية لتفكيك البلاد والسيطرة عليها. وسيتم بناؤه على نفقة العمال بهدف الحفاظ على حق البرجوازية الروسية في استغلالهم. إن الحركة الدولية الجماهيرية ضد الرأسمالية وضد الحرب هي السبيل الوحيد للمضي قدماً.

Loading