العربية
Perspective

الهجوم على رفح والتطهير العرقي في فلسطين

26 مايو 2024

في تحدٍ لأمر محكمة العدل الدولية الصادر يوم الجمعة، نفذت إسرائيل أكثر من 60 تفجيراً في مدينة رفح خلال اليومين الماضيين. حل الفزع بملايين الأشخاص حول العالم، الأحد، من لقطات مجزرة إسرائيلية في مخيم للاجئين في إحدى المناطق 'الآمنة' في رفح، راح ضحيتها ما لا يقل عن 35 شخصاً، بينهم نساء وأطفال.

وتتعرض رفح لقصف متواصل منذ ثلاثة أسابيع، إذ تتقدم الدبابات الإسرائيلية إلى شوارع المدينة شارعاً تلو الشارع يومياً. و أدت شدة القصف والهجمات البرية إلى تعليق توزيع المواد الغذائية الإنسانية في المدينة بشكل كلي، ومنعت إسرائيل جميع المساعدات الغذائية تقريباً من الوصول إلى المنطقة.

وعلى النقيض مما يراه الملايين من الناس بأعينهم، فقد أعلنت الحكومتان الأمريكية والبريطانية علناً إنه لا يوجد هجوم واسع النطاق في رفح. وزعموا إنه بقدر ما تنفذ إسرائيل عمليات عسكرية 'محدودة' في المدينة، فإنها، على حد تعبير بايدن، 'تبذل كل ما في وسعها لضمان حماية المدنيين'.

وكانت هذه الكذبة المنافية للعقل والسخيفة موضوعاً لنقاش علني للغاية يوم الثلاثاء في مجلس العموم البريطاني.

سأل النائب العمالي المعارض آندي ماكدونالد نائب وزير الخارجية البريطاني أندرو ميتشل كيف يمكن للحكومة أن تعلن أنه لا يوجد هجوم عسكري 'كبير' في رفح عندما تم تهجير 800 ألف شخص قسراً من المدينة.

ورداً على ذلك، رد نائب وزير الخارجية بأن الـ 800 ألف نازح 'اختاروا' الرحيل.

سأل ماكدونالد: “ما هو الخيار الذي كان أمامهم للتحرك؟ هل كان هذا مجرد 'أعتقد أنني أريد أن أذهب وأعيش في مكان آخر'؟ أليس هذا اقتراحاً غير معقول؟'

إن الإعلان بأن الفلسطينيين 'اختاروا' الفرار، رغم أنه منافي للعقل بالتأكيد، يحمل في طياته صدىً تاريخياً هائلاً.

إنها إعادة صياغة لما أسماه المؤرخ الإسرائيلي الشهير إيلان بابي (الذي أُخضع لاستجواب لساعات خلال رحلة قام بها مؤخراً إلى الولايات المتحدة) بـ 'الأسطورة التأسيسية' للصهيونية: أن 'النكبة' عام 1948، التي طُرد 750 ألف فلسطيني كانت بمنزلة إعادة توطين طوعية من جانب الفلسطينيين، دون أن تتأثر بإجراءات القوات الإسرائيلية.

كان كتاب بابي الصادر عام 2006 بعنوان 'التطهير العرقي في فلسطين' بمثابة فضح مدمر لكل أكاذيب التأريخ الإسرائيلي الرسمي. وأوضح إن التهجير والقتل الجماعي للفلسطينيين عام 1948 كان نتيجة خطة مفصلة وواعية.

وفي موازاة تقشعر لها الأبدان لأحداث يومنا هذا، أوضح بابي أن إسرائيل أخفت خططها كرد على هجمات تشنها ميليشيا عربية، مشيراً إلى أن 'السياسة الصهيونية استندت في البداية إلى الانتقام من الهجمات الفلسطينية في فبراير 1947، لكنها في نهاية المطاف تطورت إلى مبادرة للتطهير العرقي للبلاد بأكملها في مارس 1948.

أضاف:

وما أن اتُخذ القرار، حتى أُنجزت المهمة في ستة أشهر. وعندما انتهت الحرب، كان أكثر من نصف سكان فلسطين الأصليين، أي ما قارب من 800 ألف شخص، قد اقتلعوا من ديارهم، ودُمرت 531 قرية، وأُفرغ أحد عشر تجمعاً حضرياً من سكانه. وكانت الخطة التي اتُخذت في 10 مارس 1948، وقبل كل شيء نُفذت بشكل منهجي في الأشهر التالية، حالة واضحة لعملية تطهير عرقي، تعتبر بموجب القانون الدولي اليوم جريمة ضد الإنسانية. (ص14)

تمثل الإبادة الجماعية في غزة تتويجاً لما وصفه بابي بالأهداف 'التي حددتها الحركة الصهيونية في وقت مبكر للغاية، عندما ظهرت في فلسطين: الحصول على أكبر قدر ممكن من فلسطين مع أقل عدد ممكن من الفلسطينيين فيها'.

إن واقع أن الإبادة الجماعية الحالية هي تعبير عن خطة واعية ليس سراً. ففي 22 سبتمبر/أيلول 2023، قبل شهر واحد من الهجوم على غزة، عرض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خريطة 'للشرق الأوسط الجديد' في الجمعية العامة للأمم المتحدة. وأظهرت الخريطة أن إسرائيل تشمل جميع الأراضي الفلسطينية، كجزء من إطار جيوسياسي مع دول الشرق الأوسط المتحالفة مع الولايات المتحدة،أي مصر والسودان والأردن والمملكة العربية السعودية.

قدم نتنياهو هذا العرض الاستفزازي بعد يومين فقط من لقائه مع الرئيس جو بايدن ووزير الخارجية أنتوني بلينكن في واشنطن. خلال ذلك اللقاء، أعلن بايدن أن 'حلم الأجيال سيتحقق' في عملية إعادة التنظيم التي تقودها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، مضيفاً: 'لقد سمعتموني أقول مرات عديدة: لو لم تكن هناك إسرائيل، لكان علينا أن نخترع واحدة.'

عُقد هذا اللقاء قبل ثلاثة أسابيع من أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول، التي اجتاحت فيها قوات حماس حدود غزة بعد انسحاب متعمد للقوات الإسرائيلية من المنطقة، تنفيذاً لخطة حماس التي كانت بحوزة الحكومة الإسرائيلية منذ أكثر من عام. أطلقت أحداث ذلك اليوم ما أسماه عضو مجلس الوزراء الأمني ​​الإسرائيلي ووزير الزراعة آفي ديختر 'النكبة 2023'.

في الأسبوع الماضي، ارتكب بلينكن ما بدا أنهما زلتان لفظيتان متطابقتان في جلستين منفصلتين للجنة بمجلس الشيوخ، مما كشف عن نية الإمبريالية الأمريكية الكامنة وراء الإبادة الجماعية. وفي شهادته يوم 21 مايو أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، أعلن بلينكن:

هناك فرصة لإسرائيل لكي تندمج في المنطقة، لتحصل على الأمن والأمن الأساسي الذي تحتاج إليه وتريده، وتقيم العلاقات التي سعت إليها منذ تأسيسها. ولكن لكي يمضي ذلك قدماً فعلياً، يجب أن تكون هناك نهاية لغزة.

وفي جلسة استماع أخرى للجنة بمجلس الشيوخ في نفس اليوم، استخدم بلينكن نفس الصيغة، معلناً أن 'التطبيع' يتطلب 'إنهاء غزة'.

في كل يوم، تصبح سياسة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي الفعلية التي تمارسها الولايات المتحدة وإسرائيل أكثر وضوحاً. إن تأمين عملية إعادة تنظيم الشرق الأوسط التي تهيمن عليها الولايات المتحدة، أو ما أسماه بايدن 'حلم الأجيال'، يتطلب في الواقع 'نهاية غزة'، أي السحق المنهجي للمقاومة المنظمة من قبل الشعب الفلسطيني للهيمنة الإسرائيلية.

إن اندلاع حرب عالمية، مع استهداف القوى الإمبريالية لروسيا والصين وإيران، يمنح إسرائيل وداعميها الإمبرياليين الفرصة لتنفيذ 'الحل النهائي' للقضية الفلسطينية.

لعقود من الزمن، بُررت كل حرب شنتها الولايات المتحدة وجميع القوى الإمبريالية على إنها عملية للحفاظ على 'حقوق الإنسان' ووقف الإبادة الجماعية. لقد تم تسويق كل شيء، من قصف يوغوسلافيا إلى عملية تغيير النظام في ليبيا، باعتباره السبيل الوحيد لمنع وقوع إبادة جماعية وشيكة. وحتى حرب الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي ضد روسيا في أوكرانيا تم تسويقها للعامة باعتبارها محاولة لوقف ما أسماه بايدن 'الإبادة الجماعية' التي 'يحاول فيها بوتين فقط محو فكرة أن يكون المرء قادراً على أن يكون أوكرانياً'.

ومع ذلك، فقد أوضحت أحداث الأشهر السبعة الماضية أن أكبر الدول الراعية للإبادة الجماعية والتطهير العرقي هي الولايات المتحدة وحلفاؤها الإمبرياليون.

Loading